كيف تساعد الحشرات المحققين في كشف جرائم القتل ؟

الحشرات هي مجموعة كبيرة ومتنوعة من المخلوقات الحية التي تعيش في مختلف البيئات والظروف. بعض الحشرات تلعب دوراً مفيداً في الزراعة والتلقيح والتحكم في الآفات، بينما تعتبر بعضها الآخر مضرة أو مزعجة للإنسان والحيوان. لكن هل تعلم أن الحشرات يمكن أن تكون أيضاً شهوداً صامتين على جرائم القتل؟

كيف تساعد الحشرات المحققين في كشف جرائم القتل ؟


في هذا المقال، سنتعرف على علم الحشرات الجنائي، وهو العلم الذي يطبق علم أحياء الحشرات في التحقيقات الجنائية، وسنستعرض بعض الأمثلة والتطبيقات العملية لهذا العلم في كشف ملابسات القضايا الجنائية.


 1. ما هو علم الحشرات الجنائي؟

علم الحشرات الجنائي هو فرع من فروع الطب الشرعي، وهو العلم الذي يهتم بدراسة الحشرات ومفصليات الأرجل الأخرى التي تتواجد على أو بالقرب من الجثث البشرية أو الحيوانية، واستخدامها كأدلة جنائية للكشف عن معلومات مهمة مثل وقت الوفاة، مكان الوفاة، سبب الوفاة، هوية الضحية أو الجاني، وغيرها من الجوانب المتعلقة بالجريمة.


علم الحشرات الجنائي يعتمد على مبدأ أن الحشرات تتبع نمطاً محدداً في استعمار الجثث، وأنه يمكن تحديد مراحل نموها وتطورها بدقة، وبالتالي يمكن استنتاج بعض الحقائق عن الجثة من خلال دراسة الحشرات الموجودة عليها أو فيها. بعض الحشرات تكون أكثر شيوعاً في بعض المواسم أو المناطق أو الظروف، وبالتالي يمكن استخدامها كمؤشرات على موقع الجريمة أو تاريخها. كما أن بعض الحشرات يمكن أن تحفظ الحمض النووي أو المواد الكيميائية أو السموم التي توجد في الجثة أو على سطحها، وبالتالي يمكن استخدامها كأدوات للتحليل الجزيئي أو السامي⁵.


علم الحشرات الجنائي ليس علماً جديداً، بل يعود تاريخه إلى قرون مضت. أول استخدام مسجل للحشرات في التحقيقات الجنائية كان في الصين عام 1235م، حين تم كشف غموض قضية مقتل مزارع صيني بضربة منجل عميقة، فطلب زعيم القرية من المزارعين إحضار مناجلهم، ووضعها على الأرض، وعدم عمل أي حركة، وما هي إلا دقائق حتى تجمع الذباب على أحد هذه المناجل وانكشف القاتل؛ بسبب آثار الدم واللحم على منجله الذي استخدمه للجريمة، بالرغم من اجتهاده في تنظيفه لإخفاء جريمته؛ فالذباب جذبته رائحة الدم حتى بعد غسل المنجل.


في العصور الحديثة، بدأ علم الحشرات الجنائي ينمو ويتطور بفضل الأبحاث العلمية والتجارب المخبرية والحالات العملية التي أثبتت فعاليته ودقته في مساعدة رجال القانون والطب الشرعي في حل العديد من الجرائم المعقدة والغامضة.


 2. كيف تساعد الحشرات في تحديد وقت الوفاة؟

وقت الوفاة هو أحد أهم المعلومات التي يحتاج إليها المحققون في أي قضية جنائية، لأنه يساعد في تضييق نطاق الشبهة والتحقق من الروايات والأليبيات والدوافع والأساليب. لكن تحديد وقت الوفاة ليس بالأمر السهل، خاصة إذا كانت الجثة قد مر عليها وقت طويل منذ الوفاة، أو تعرضت لعوامل خارجية تؤثر على مظهرها أو حالتها. في هذه الحالات، يمكن للحشرات أن تقدم خدمة كبيرة للمحققين، بفضل قدرتها على تحديد ما يسمى بالفترة الحشرية Post-Mortem Interval (PMI)، وهي المدة الزمنية التي تمر بين وقت الوفاة ووقت الفحص.


الفترة الحشرية تعتمد على مراحل نمو الحشرات التي تستعمر الجثة، والتي تختلف باختلاف أنواع الحشرات والظروف البيئية. بشكل عام، تمر الحشرات بما يسمى بالتحول الكامل Complete Metamorphosis، وهو عبارة عن أربعة مراحل رئيسية هي: البيضة، اليرقة، العذراء، والحشرة الكاملة. كل مرحلة تستغرق وقتاً محدداً يمكن قياسه بدقة، وبالتالي يمكن استخدامه كمؤشر على عمر الجثة. على سبيل المثال، الذباب الأزرق Calliphoridae هو من أول الحشرات التي تصل إلى الجثة بعد الوفاة، وتضع بيضها على الجروح أو المنافذ الطبيعية، وتفقس البيضة بعد 24 ساعة تقريباً، وتتحول إلى يرقة تمر بثلاث مراحل تسمى instars، وتستمر كل مرحلة من 24 إلى 48 ساعة، ثم تتحول إلى عذراء تبقى فيها من 4 إلى 6 أيام، ثم تنبثق منها الحشرة الكاملة. بالتالي، يمكن للمحقق أن يحدد وقت الوفاة بناء على مرحلة نمو الذباب الأزرق التي يجدها على الجثة.


لكن ليس كل الحشرات تصل إلى الجثة في نفس الوقت، فهناك ما يسمى بتسلسل الاستعمار Succession، وهو ترتيب زمني لظهور الحشرات على الجثة، والذي يعتمد على حالة الجثة ونوع الحشرات. فعادة ما تنقسم الحشرات إلى ثلاثة مجموعات رئيسية هي:

  •  الحشرات الأولية Primary، وهي التي تصل إلى الجثة في الساعات الأولى من الوفاة، وتضع بيضها على الجثة أو بالقرب منها، ومنها الذباب الأزرق والذباب الأخضر والذباب الأسود.
  •  والحشرات الثانوية Secondary، وهي التي تصل إلى الجثة بعد بدء التحلل، وتتغذى على الجثة أو الحشرات الأولية أو كليهما، ومنها الخنافس والنمل والصراصير.
  •  والحشرات الثالثية Tertiary، وهي التي تصل إلى الجثة في مراحل متأخرة من التحلل، وتتغذى على الفطريات والنباتات التي تنمو على الجثة أو بالقرب منها، ومنها الخنافس النباتية والخنافس الفطرية. بالتالي، يمكن للمحقق أن يحدد وقت الوفاة بناء على نوع الحشرات التي يجدها على الجثة.


لكن ليس هذا فقط، فهناك عوامل أخرى تؤثر على مراحل نمو الحشرات وتسلسل الاستعمار، وهي الظروف البيئية مثل درجة الحرارة والرطوبة والضوء والموقع والموسم والتربة والنباتات والحيوانات والتدخل البشري. فكل هذه العوامل يمكن أن تسرع أو تبطئ أو تمنع نمو الحشرات أو وصولها إلى الجثة، وبالتالي تغير من تقدير الفترة الحشرية. لذلك، يجب على المحقق أن يأخذ في الاعتبار كل هذه العوامل عند تحديد وقت الوفاة، وأن يستخدم مصادر موثوقة ومحدثة عن مراحل نمو الحشرات وتسلسل الاستعمار في منطقته، وأن يقارن بين الحشرات الموجودة على الجثة والحشرات الموجودة في البيئة المحيطة.


3. كيف تساعد الحشرات في تحديد مكان الوفاة؟

مكان الوفاة هو أيضاً معلومة مهمة في التحقيقات الجنائية، لأنه يساعد في تحديد مسرح الجريمة والأدلة الموجودة فيه، وكذلك في معرفة ما إذا كانت الجثة قد نقلت من مكان آخر أو لا. في بعض الحالات، يمكن للحشرات أن تكشف عن مكان الوفاة، بفضل خصوصيتها وتوزيعها الجغرافي. فبعض الحشرات تكون أكثر شيوعاً في بعض المناطق أو المواسم أو البيئات من غيرها، وبالتالي يمكن استخدامها كمؤشرات على موقع الجريمة أو تاريخها.


 على سبيل المثال، الخنافس النباتية Botanophila هي حشرات تتغذى على النباتات الزهرية، وتوجد في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية، ولكن ليس في أفريقيا أو أستراليا. لذلك، إذا وجدت هذه الحشرات على جثة في أفريقيا أو أستراليا، فهذا يدل على أن الجثة قد نقلت من مكان آخر.


كما يمكن للحشرات أن تحمل معها بعض الأدلة الجيولوجية أو النباتية أو الحيوانية التي تعكس موقعها الأصلي، والتي يمكن تحليلها بواسطة العلوم الأخرى مثل علم الجيولوجيا الجنائي أو علم النبات الجنائي أو علم الحيوان الجنائي. على سبيل المثال، الخنافس الفطرية Agaricophilus هي حشرات تتغذى على الفطريات، وتوجد في أماكن مختلفة حول العالم، ولكن تختلف أنواع الفطريات التي تتغذى عليها باختلاف المنطقة. لذلك، إذا وجدت هذه الحشرات على جثة، فهذا يدل على أن الجثة كانت في مكان به نوع معين من الفطريات، ويمكن تحديد هذا النوع بواسطة علم الفطريات الجنائي.


 4. كيف تساعد الحشرات في تحديد سبب الوفاة؟

سبب الوفاة هو العامل أو العوامل التي تؤدي إلى انقطاع الحياة، ويمكن أن يكون طبيعياً أو جنائياً أو انتحارياً أو حادثياً. في بعض الحالات، يمكن للحشرات أن تساعد في تحديد سبب الوفاة، بفضل قدرتها على امتصاص أو تخزين أو تحليل بعض المواد الكيميائية أو السموم أو الأدوية التي توجد في الجثة أو على سطحها. فبعض الحشرات تكون حساسة لهذه المواد، وتظهر تغيرات في سلوكها أو مظهرها أو مراحل نموها، وبالتالي يمكن استخدامها كمؤشرات على وجود هذه المواد في الجثة.

 على سبيل المثال، الذباب الأخضر Lucilia sericata هو حشرة تتغذى على الجثث، ولكنها تتجنب الجثث التي تحتوي على مبيدات حشرية أو مخدرات أو كحول، وتفضل الجثث التي تحتوي على مضادات حيوية أو مسكنات أو مضادات الاكتئاب، وتظهر تغيرات في معدل نموها وحجمها ولونها. لذلك، إذا وجدت هذه الحشرات على جثة، فهذا يدل على أن الجثة تحتوي على بعض هذه المواد، ويمكن تحديد نوعها وكميتها بواسطة علم السموم الجنائي.


كما يمكن للحشرات أن تساعد في تحديد سبب الوفاة، بفضل قدرتها على الكشف عن بعض الجروح أو الإصابات التي تعرضت لها الجثة، والتي قد تكون مخفية أو محجوبة بسبب التحلل أو الحرق أو الدفن. فبعض الحشرات تكون مفضلة لبعض أنواع الجروح أو المنافذ الطبيعية، وتضع بيضها فيها، وتفقس يرقاتها فيها، وتتغذى على الأنسجة الموجودة فيها. على سبيل المثال، الذباب الأزرق Calliphoridae هو حشرة تفضل الجروح النازفة أو الملتهبة أو المتقيحة، وتضع بيضها فيها، وتفقس يرقاتها فيها، وتتغذى على الدم والصديد والأنسجة المتلفة. لذلك، إذا وجدت هذه الحشرات في جثة، فهذا يدل على أن الجثة تعرضت لبعض هذه الجروح، ويمكن تحديد نوعها ووقتها بواسطة علم الجروح الجنائي.