الأساطير في مواجهة العلم : من سَيَنتصر؟

 منذ فجر الحضارة، حاول الإنسان فهم الكون من حوله. في البدء، كانت الأساطير هي اللغة التي تفسر الظواهر الطبيعية والأسرار الكونية، حيث ابتكرت الحضارات القديمة قصصًا عن آلهة تتحكم في العواصف والبحار والنجوم. لكن مع تطور العقل البشري، ظهر العلم ليقدم إجابات مبنية على الملاحظة والتجربة. اليوم، يقف العالم على مفترق طرق: هل ستظل الأساطير جزءًا من تراثنا الثقافي، أم أن العلم سيُزيحها تمامًا؟ هذا السؤال ليس مجرد نقاش فلسفي، بل معركة حقيقية تُحدد مصير الإنسانية في عصر التكنولوجيا والمعلومات.

الأساطير في مواجهة العلم : من سَيَنتصر؟


الأسطورة في التاريخ البشري: لماذا احتاج الإنسان إلى الخرافات؟

قبل آلاف السنين، عندما كان الإنسان يعيش في ظلام الجهل، كانت الأساطير بمثابة "علبة الأدوات" الأولى لفهم العالم. في مصر القديمة، اعتقد الفراعنة أن الإله "رع" يبحر كل ليلة في قاربه عبر العالم السفلي ليُعيد شروق الشمس. وفي بلاد ما بين النهرين، رُوِيَت قصة "إنكي" إله الحكمة الذي خلق البشر من دم التنين "كيهور" لخدمة الآلهة. حتى الإغريق ابتكروا أساطير مثل "بروميثيوس" الذي سرق النار من زيوس ليعطيها للبشر، مُفسرين بذلك أصل المعرفة.


هذه القصص لم تكن مجرد ترفيه، بل كانت نظامًا معرفيًّا متكاملًا يربط بين الظواهر الطبيعية والوجود الإنساني. فالرعد لم يكن حدثًا عشوائيًّا، بل غضب إله الحرب "ثور" في الأساطير الإسكندنافية، والأمراض كانت عقابًا من الآلهة كما في الملاحم السومرية. هنا، تكمن قوة الأسطورة: لقد منحت الإنسان معنىً في عالم غامض، ووفرت إجابات بسيطة لأسئلة معقدة.


صعود العلم: من الخرافة إلى المنهج التجريبي

مع ظهور الحضارات القديمة مثل الإغريق، بدأ التفكير العقلاني يشق طريقه. ففي القرن السادس قبل الميلاد، تجرأ الفلاسفة مثل "طاليس" على تفسير الزلازل ليس كغضب آلهة، بل كحركة طبيعية في الأرض. لكن الثورة الحقيقية حدثت في عصر النهضة الأوروبية، عندما أدرك العلماء أن الملاحظة والتجربة هما المفتاح.


مثال جاليليو: عندما وجه تلسكوبه نحو السماء، اكتشف أن كوكب المشتري له أقمار تدور حوله، مما هدم فكرة أن كل الأجرام تدور حول الأرض. هذا الاكتشاف لم يكن مجرد معلومة علمية، بل زلزال فكري هز أسس الكنيسة التي اعتبرت نموذج "بطليموس" (الأرض مركز الكون) حقائق مطلقة. حتى أن جاليليو وُجِّهت إليه تهمة الهرطقة، لكن العلم انتصر في النهاية.


معارك العلم ضد الأساطير: قصص من التاريخ

1. أسطورة الأرض المسطحة vs. الرحلة إلى الفضاء

رغم انتشار الاعتقاد الشائع أن الناس قديمًا اعتقدوا أن الأرض مسطحة، فإن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فالإغريق مثل "أرسطوطاليس" أدركوا كروية الأرض عبر ملاحظة ظلال الكسوف وانحناء الأفق. لكن في العصور الوسطى، تراجع هذا الفهم بسبب الجمود الفكري.


عندما أبحر "كريستوفر كولومبوس" عام 1492، لم يخشَ السقوط من حافة الأرض كما يُشاع، بل كان يُحاول الوصول إلى الهند عبر الغرب، مُستندًا إلى حسابات خاطئة لحجم الكرة الأرضية. اليوم، تُظهر صور وكالة ناسا من الفضاء كروية الأرض بوضوح، لتُصبح هذه الأسطورة درسًا في أهمية الدليل البصري.


2. أسطورة التوليد التلقائي vs. ثورة الجراثيم

حتى القرن التاسع عشر، اعتقد الأطباء أن الذباب يُولد تلقائيًّا من اللحم الميت، والديدان تظهر في الأمعاء دون عدوى. لكن تجارب "لوي باستور" غيرت كل شيء: ففي عام 1859، وضع سائلًا مغليًّا في دورق ذي رقبة منحنية، فمنع دخول الميكروبات دون منع الهواء، وأثبت أن التلوث يأتي من الخارج. هذه التجربة لم تُدمر فقط أسطورة التوليد التلقائي، بل أسست لعلم الميكروبيولوجيا وأنقذت ملايين الأرواح عبر تعقيم الأدوات الطبية.


العلم الحديث وتفكيك الأساطير: هل انتهى الصراع؟

في العصر الرقمي، تطورت الأساطير لتأخذ أشكالًا جديدة، مثل نظريات المؤامرة و"الطب البديل" غير العلمي. ففي الولايات المتحدة، 20% من البالغين يعتقدون أن اللقاحات تسبب التوحد، رغم عشرات الدراسات التي نفت ذلك، مثل بحث جامعة "ستانفورد" عام 2015 الذي حلل بيانات مليون طفل.


لكن العلم اليوم يمتلك أسلحة جديدة: البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي . ففي مجال الفيزياء الفلكية، استخدم تليسكوب "هابل" بيانات 30 عامًا لحساب معدل توسع الكون بدقة، مُفنِّدًا نظريات قديمة اعتمدت على التكهنات. كما أن اكتشاف موجات الجاذبية عام 2015 أكد نظرية "أينشتاين" النسبية، التي كانت تُعتبر "خيالًا علميًّا" قبل قرن.


التعايش بين الأسطورة والعلم: هل هو ممكن؟

رغم انتصارات العلم، لا تزال الأساطير حية في الثقافات. ففي الهند، يُعبد الثعبان "أنانتا" كرمز للخلود، بينما تحتفل المكسيك بعيد الموتى برموز هيكلية ترمز إلى دورة الحياة. هنا، لا تتعارض الأسطورة مع العلم، بل تُثري التراث الثقافي.


لكن الخطورة تكمن عندما تُستخدم الأساطير كبدائل للعلم . ففي أفريقيا، تسببت شائعات عن لقاحات شلل الأطفال تحتوي على فيروسات الإيدز في تفشي المرض من جديد. هنا، يبرز دور التواصل العلمي الفعّال ، مثل حملات منظمة الصحة العالمية التي تستخدم القصص الشعبية نفسها لتوعية المجتمعات.


الخاتمة: العلم ينتصر... لكنه لا يُلغي الإنسانية

في المعركة بين الأساطير والعلم، لا شك أن العلم هو الفائز. فكل اكتشاف جديد يُزيح غمامة الجهل، وكل تجربة تُثبت أن الكون يخضع لقوانين يمكن فهمها. لكن هذا لا يعني أن الأساطير بلا قيمة. فكما قال عالم الفلك "卡尔 ساغان": "العلم أكثر إثارة من أي أسطورة، لأنه يكشف حقائق تفوق خيالنا".


ربما يكون الحل هو التكامل لا الصراع: أن نستخدم العلم لفهم العالم، والأساطير لفهم أنفسنا. ففي النهاية، الإنسان كائن عقلاني وعاطفي، يحتاج إلى إجاباتٍ... وإلى قصصٍ أيضًا.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-